الخبز الدامي.. منظر يتكرر في قرية منظر
الحديدة :- علي جعبور
نقلا عن منصة صوت إنسان.
” كنت على وشك أخذ وجبة العشاء من يد العامل في المخبز الخيري وفجأة تحول كل شيء أمامي الى لهب وغبار”
هكذا بدأ جمعان حديثه متأملا يده المليئة بأثار الحروق والندوب التي خلفتها شظايا المقذوف محاولا تحريكها بالكاد.
أمام المخبز الخيري الوحيد المتبقي في قرية منظر جنوبي مدينة الحديدة اعتاد جمعان شامي 14 عاما الوقوف في طابور طويل كل مساء ليحصل على وجبة عشاء لأسرته تسد القليل من جوعها.
وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه حصته من أقراص الروتي الهزيلة، كانت جماعة الحوثي تجهز له وللذين معه حصة مميتة من نوع كاتيوشا، أطلقته نحو المخبز بشكل مباشر.
فقَدَ جمعان عدد من رفاقه في الحادث وشاءت له الأقدار أن ينجو وتستمر حياته مصحوبة بإعاقة جسدية ونفسية.
لم تكن ليلة الأربعاء الموافق 8 أغسطس 2018 عادية بالنسبة لجمعان وأسرته، إذ تناهى الى سمعهم دوي انفجار قوي على الجانب الغربي للقرية، لكنه لم يكن بالأمر الغريب وغير المألوف حتى يثر قلقهم وانتباههم، ذلك أن مثل هذه الاصوات غدت جزءاً من واقع القرية التي تدور على مقربة منها اشتباكات عنيفة بين القوات الحكومية والمتمردين الحوثيين، وبعد مرور نصف ساعة على الانفجار عاد الخبر المفزع الى الاسرة ولم يعد جمعان، فقد أصيب في يده وظهره ونقل الى مدينة المخا بواسطة سيارة إسعاف تابعة لقوات المقاومة اليمنية، ليمكث بعدها أربعة أشهر في مستشفى أطباء بلا حدود أجريت له خلالها عدة عمليات جراحية لاستخراج الشظايا من جسده، ليعود بعدها الى مخيم الجشة بمدينة الخوخة ويقطن خيمة مهترئة، إذ قررت أسرته مغادرة القرية والنزوح الى المخيم، الذي بدا لها أهون الخيارات مرارة وأقلها خطرا على الحياة.
ذاكرة مجروحة..
يسترجع جمعان آخر اللحظات قبل سقوط الصاروخ، ويستعير ابتسامات طفيفة يواري بها مشاعر الخوف والألم كلما مرت بذهنه أحداث الليلة المشؤومة ولاحت بخياله طيوف الاشخاص الذين كانوا معه في المكان وقضوا في الحادث، يواصل الحديث: كان هناك رجل مسن لا أعرفه يقف أمامي مباشرة، وكان يبدو عليه القلق والتوتر الشديدين من زحمة الطابور ومن الوضع الذي خلقته الحرب، ثم قرر المغادرة قبل أن يتسلم وجبته ، لكنني أقنعته بالبقاء فلم يعد يفصله سوى بضعة أشخاص ليصل الى عامل المخبز، وفجأة وقعت قذيفة على بعد مائتي متر تقريبا من مكاننا، ارتبكنا قليلا ثم عدنا للإنتظام في الطابور، كان الجميع يترقب القذيفة التالية ويده على قلبه، كنا نطالع وجوه بعضنا بصمت ولدينا إحساس أشبه بالقين أن ثمة أخرى قادمة ولكن لا نعرف أين وجهتها ولم نتوقع أبدا أننا الهدف التالي وحين عرفنا ذلك لم يكن بأيدينا أن نغير قدرنا. في المستشفى علمت أن المسن الذي أقنعته بالبقاء قتل في الحادث، لذلك شعرت بندم كبير لأجله، فلو أنني تركته يذهب لنجا بحياته.
يتوقف عن الحديث ذاهلا وقد أعياه شريط الذكريات الثقيلة إذ يستعيدها بحسرة، ثم ما يلبث أن يعود من شروده، يتفحص الوجوه غير مصدق أنه يحيا من جديد ويرى الأشياء حوله واضحة وحقيقية مثلما كان يراها من قبل، وترتسم على محياه ابتسامة باهتة وخالية من المعاني سوى معنى السخرية السوداء من قسوة واقع حمّل طفلا بعمر الزهور ما لا يطيق من الشقاء، فبالرغم من عمره الصغير الا أن الحرب جعلته يبدو كهلا وبائسا من الداخل.
بعد برهة من التفكير الصامت والسرحان بحثا عن صور لا زالت متوارية بزوايا ذهنة المشوش يستأنف قائلا : كان صوت الانفجار مهولا ومرعبا، شعرت بطنين حاد في أذني وألم شديد في يدي اليسرى وظهري ووجدتني مرميا على قفاي وقد كنت قبل لحظة واقفا في الطابور، حاولت الاتكاء على مرفقي والنهوض الا أن يدي اليسرى خذلتني فقد كانت مصابة وغير قادرة على الحركة، تلفتُ حولي وكان الغبار قد أخذ ينقشع، شعرت بألم مضاعف، كان الجميع ملقيين على الأرض ينزفون ويأنون، ومن داخل الفرن فاحت رائحة الخبز الطري وقد اختلطت برائحة الدم والبارود. مرة أخرى حاولت النهوض لكنني سقطت وأغمي علي، ولم أفق بعدها الا في مستشفى أطباء بلا حدود بمدينة المخا.
قصة جمعان نموذج واحد لقصص مأساوية كثيرة تسببت الحرب في حدوثها وتحولت معها الكثير من القرى والمدن اليمنية الى مدن أشباح، منها قرية منظر المنكوبة، حيث يكاد لا يخلو بيت أو مبنى فيها من خراب أحدثته قذيفة أو ندوب رصاص وشظايا محفورة على الجدران، حتى يخيل إليك للوهلة الأولى وأنت تتأملها أنها باتت مهجورة بالكامل، لكن وبالرغم مما تبدو عليه من دمار الا أن ثمة حياة ما زالت تعتمل بالداخل أبطالها أسر ظلت متمسكة بالبقاء مع وجود الخطر، إذ لا تتوقف القذائف عن زيارة القرية من حين لآخر وفي إحدى هذه الزيارات عرجت، مرة أخرى، على المخبز ذاته الذي أصيب فيه جمعان لتحدث مجزرة جديدة ومنظر مأساوي يتكرر كثيرا في قرية منظر.
ويناشد الاهالي، الذين عادوا الى القرية، وتعدادهم 250 أسرة، الحكومة الشرعية والمنظمات الانسانية توفير مخابز خيرية أخرى لإطعامهم بعد تدمير مخبزهم الوحيد اذ يقتصر حصولهم على الطعام حاليا على ما تقدمه لهم قوات المقاومة اليمنية المشتركة بعد أن تقطعت بهم السبل وعزلتهم الحرب عن مدينة الحديدة وضاق بهم الحال في البر والبحر.
تمييع الجرائم..
وفي تصريح له أشار رئيس منظمة سياج لحماية الطفولة أحمد القرشي الى إن غالبية الجرائم والانتهاكات ضد المدنيين في اليمن تم تجريفها والتلاعب بأدلتها من قبل أطراف النزاع من وقت مبكر ، إذ عملت جميع أطراف الصراع على عسكرة المنظمات المدنية العاملة في مجالات رصد وتوثيق الانتهاكات والجرائم بحيث أصبح لكل طرف ترسانة من الراصدين وكتاب البيانات والتقارير الحقوقية التي لا تتمتع غالبيتها بالحد الأدنى من معايير المهنية التي تجعلها مقبولة للاحتجاج بها أمام القضاء الوطني والدولي مستقبلا. وهذا أفقد تلك التقارير والجهود الكبيرة تأثيرها من حيث الردع والتخويف اللازم للحد من الاعتداءات على المدنيين .
وأضاف القرشي: الخطورة هنا تكمن في أن استقطاب وتشغيل هذه المنظمات كأذرع حقوقية للأطراف المتحاربة مقابل التمويل تسبب في تحويل تلك الانتهاكات والجرائم إلى مادة إعلامية موجهة من كل طرف ضد الآخر ولا نتوقع انه سيترتب عليها نفع مستقبلي للضحايا وذويهم فيما يخص التعويض وجبر الضرر.
يتابع : لذا نجد جرائم وانتهاكات كبيرة يتم ممارستها بشكل مستمر ودون أي رادع.
وللأسف فأن الكثير من المنظمات الدولية قبلت بأن تكون اذرع لأطراف النزاع مقابل البقاء والعمل وبعضها تقنع بمنظمات محلية كأدوات تبقيه نظيفا وتتحمل هي وزر التصدي المباشر للطرف الخصم المحارب في الميدان والحقيقة أنه ضالع في تمييع حقوق المدنيين ومساهم في استمرار العنف بحقهم مهما كانت قدرته على التخفي.
ولفت الى ضرورة الابتعاد عن إقحام المنظمات الحقوقية في الصراع الدائر وان يتم السماح لها بالعمل بحيادية ومهنية دون ضغوط ولا مضايقات من قبيل سحب التراخيص ومنع التمويل وإعاقة أنشطتها أثناء التنفيذ الميداني، حتى تتمكن من أداء مهمتها بحيادية تامة. لأن وجود منظمات غير حكومية على مسافة واحدة من جميع أطراف الصراع من اهم الضمانات للحد من استهداف المدنيين. وبنفس الوقت فإن ما ترصده وتوثقه اليوم سيمثل أحد أهم المستندات المستقبلية لرعاية الضحايا وتعويض عائلاتهم وجبر الضرر الذي لحقهم في الأرواح والممتلكات.