من حربٍ إلى أخرى، يقضي اليمنيون حياتهم. لا يذكر جيلٌ منهم أنه تنعّم باستقرار كلّي على مدى معايشته للأوضاع المتقلّبة التي تشهدها البلاد منذ ثورة 26 سبتمبر 1962.
اضطرابات أفرزتها الصراعات المتلاحقة من معركة الجمهورية والملكيين، مرورًا بالانقلابات السياسية والعسكرية، وصولًا إلى حرب صيف 1994، والحروب الست بين الجيش اليمني والحوثيين في صعدة (شمال البلاد)، والانفجار الكبير في مارس 2015. ولكل حربٍ وجهٌ مختلفٌ وضحايا جدد.
تبقى الألغام سلاحًا مميزًا في الحالة اليمنية، إذ شاع استخدامها منذ حرب المناطق الوسطى، ومازالت مناطق تدفع ثمن هذا السلاح حتى اليوم، وإن كانت الرقعة قد توسعت، والأشكال اختلفت، وتعددت الأنواع، وبات هناك آلاف الضحايا بلا عناية ورعاية تُذكر.
ووفق المؤشرات الدولية، فإن الحوثيين يُفردون مساحة واسعة لترسانتهم من الألغام، ويصحبونها معهم في كل معاركهم، دون اكتراث لضحيتهم الموعودة بمأساة سرمدية.
الانتشار الأعلى عالميًا
تشير تقارير إلى أن اليمن بوضعها الحالي تُعد الأكبر من حيث انتشار الألغام عالميًا بعد الحرب العالمية الثانية؛ فكل محافظة شهدت مواجهات مسلّحة بين أطراف الصراع، كان لها نصيبها من الألغام المتعددة الأغراض، حتّى إنه لا أرقام محددة لذلك، وتتوقف التوقعات عند مئات الآلاف في مختلف المحافظات.
حتى الأسبوع الثاني من ديسمبر الجاري، نزع مشروع “مسام” 293,561 لغمًا وذخيرة غير منفجرة وعبوة ناسفة، منها ما يزيد عن 184 ألف ذخيرة غير منفجرة، وأكثر من 6000 عبوة ناسفة.
وتمكّنت فرق المشروع السعودي لنزع الألغام الذي بدأ نشاطه نهاية يونيو 2018، من نزع نحو 99 ألف لغم مضاد للدبابات، وأكثر من 4000 لغم مضاد للأفراد، وبذلك وصلت الأراضي التي تم التأكد من خلوها ونزع الألغام والعبوات المزروعة فيها، إلى قرابة 27 كيلومترًا مربعًا.
تأتي محافظة الحديدة على رأس القائمة؛ فعدد المدنيين المعرّضين للخطر المباشر يزيد على 330 ألف مدني، كما عرّضت ألغام الحوثيين حياة أكثر من 140 ألف أسرة للخطر
وتمخّض مشروع مسام عن اتفاقية لنزع الألغام والذخائر غير المنفجرة، وقعتها الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا مع شركة دايناشيلد، تضامنًا مع شركة دايناسيف (الشرق الأوسط لإدارة المشاريع)، وبمشاركة Dynasafe Area Clearance Group الإنجليزية.
وتضمّن تقرير للتحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان (تحالف رصد) أن الحوثيين زرعوا أكثر من مليون لغم في مختلف المحافظات التي خاضوا فيها معارك عسكرية، منها ألغام مضادة للأفراد ومضادة للعربات ومضادة للدبابات والسفن والمراكب البحرية، منذ عام 2014 وحتى 2018.
وتأتي محافظة الحديدة على رأس القائمة؛ فعدد المدنيين المعرّضين للخطر المباشر يزيد على 330 ألف مدني، كما عرّضت ألغام الحوثيين حياة أكثر من 140 ألف أسرة للخطر، وتشمل تلك الأرقام فترة ما بعد اتفاق السويد، بحسب تقرير تحالف رصد.
وكشف التقرير زراعة الحوثيين 37 حقلًا من الألغام، كل حقل يضم الآلاف من الألغام الفردية والجماعية والمركّبة، المنتشرة في 251 منطقة ضمن نطاق 16 مديرية من مديريات الحديدة.
فتكٌ ووبال
في أبريل 2019 قالت منظمة هيومن رايتس ووتش، في تقرير لها، إن استخدام الحوثيين الواسع للألغام الأرضية على طول الساحل الغربي للبلاد، منذ منتصف 2017، قتل وجرح مئات المدنيين، ومنع منظمات الإغاثة من الوصول إلى المجتمعات الضعيفة.
ووفقًا لموقع “مشروع رصد الأثر المدني”، وهو مصدر بيانات إنسانية، فالألغام الأرضية والأجهزة المتفجرة اليدوية الصنع، منعت المنظمات الإنسانية من الوصول إلى السكان المحتاجين، وأدت إلى منع الوصول إلى المزارع وآبار المياه، وألحقت الأذى بالمدنيين الذين يحاولون العودة إلى ديارهم.
وتضمّن تقرير المنظمة الدولية أن الألغام الأرضية منعت المنظمات الإنسانية من الوصول إلى قرى ومناطق على طول الساحل الغربي، وشملت قرى في مديريتي التحيتا وموزع، وكذلك مدينة الحديدة، مؤكدًا أن استخدام الحوثيين للألغام الأرضية، التي تحرم الناس من مصادر المياه والغذاء، يسهم في الأزمة الإنسانية في كامل أنحاء البلاد التي مزقتها الحرب.
الناشط في مجال حماية حقوق الإنسان، ماهر العبسي، يؤكد في حديثها “للمشاهد“أن اليمن موقعة على اتفاقية أوتاوا لحظر استخدام الألغام، والتي بموجبها يُحرّم استخدام الألغام، وتُحظر في كل النطاقات، إلا أن الوضع الراهن الذي فرضته الحرب شكّل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك استخدام الألغام والعبوات الناسفة تحت مبرر الضرورة العسكرية، وهو ما يتنافى مع المواثيق والاتفاقيات التي تجرّم هذه الأفعال، حسب قوله.
وكانت الأمم المتحدة أعلنت في أكتوبر الماضي مقتل 1424 مدنيًا خلال 4 سنوات، جراء الألغام والذخائر التي لم تنفجر من مخلفات الحرب في اليمن، وقال مكتب ممثل منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة: “إن الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب الدامية التي تعصف باليمن منذ 7 أعوام، مازالت تتسبب في قتل وتشويه المدنيين، وتشكل مخاطر كبيرة على عمال الإغاثة”.
إزالة بدون تنسيق
فرقٌ مختلفة تعمل على إزالة الألغام المزروعة في عدة محافظات، سواء تلك الفرق الهندسية العسكرية والمدنية المدعومة من الحكومة المعترف بها، أو المجموعات الإنسانية التي تعمل في إطار تدخلات مؤقتة لنزع الألغام عن مناطق بعينها، وبدعم من منظمات ذات صلة بمكافحة وتطهير الألغام.
وسجلت هيومن رايتس ووتش في عديد من الحالات أن إزالة الألغام كانت عشوائية، وبطرق غير آمنة، كما سمح العاملون في إزالة الألغام للمدنيين، بمن فيهم الأطفال، بالوقوف على بعد أمتار قليلة من عمليات الإزالة؛ ونقلوا وحملوا الألغام دون إزالة الصواعق؛ ونفذوا أعمالهم دون معدات واقية، بما فيها الأقنعة الواقية من الانفجار أو السترات المضادة للرصاص.
وتذهب مريم المعاري، صحفية، إلى ضرورة وجود توجّه دولي جاد لمواجهة استخدام الألغام في الحرب اليمنية، وبهذه الغزارة، حتى إنها باتت تُستخدم لحصار مدن برمتها، داعيةً إلى تعزيز العمل لنزع الألغام بشكل سلس وآمن؛ لضمان عدم وقوع ضحايا جدد، حتى عند العمل على الخلاص منها.
ويحظر القانون اليمني و”اتفاقية حظر الألغام” لعام 1997، استخدام الألغام المضادة للأفراد؛ إذ استُخدمت الألغام المضادة للمركبات عشوائيًا في انتهاكٍ لقوانين الحرب، ما شكّل خطرًا على المدنيين بعد فترة طويلة من توقّف القتال، وهذه حالة سارية في اليمن، عززتها الحرب المستمرة منذ مارس 2015.